يكثر الحديث عن واقع الأمة العربية المعاصرة وما تعيشه من أزمات ومعضلات في شتى المجالات لا حصر لها ، وما تعانيه من فتن وشبهات وتقلبات تعصف بالمجتمعات العربية والإسلامية بصورة اختلط فيها الحابل بالنابل ، ومما يؤسف له أن بعضاً من الإعلام المسيس ينسب ما تعانيه الأمة من فتن إلى الإسلام خاصة بعد تراجع فرص نجاح التجارب الإسلامية في السياسة في دول الربيع العربي ، وحقيقة الأمر في ذلك كله أن الفتن التي تشهدها المنطقة العربية تحديداً هي صناعة سياسية بامتياز ، ولا يمكن أن تحسب على الفكر الإسلامي ، أو على الإسلام ، أو على الدين بشكل عام ، فالتجربة السياسية الإسلامية هي نتاج اجتهاد بشري يصيب ويخطئ جاءت في ظروف دولية وإقليمية معقدة ، ولم تكن وليدة ظروف طبيعية يمكن أن تؤدي إلى الاستقرار دفعة واحدة ، ولكنها ظروف استثنائية تتطلب التدرج ، كما تتطلب مراعاة الظروف والمعطيات الإقليمية والدولية بعين الاعتبار في عالم تحكمه الاتفاقيات التي تراعي مصالح الدول والمنظمات ، وتتطلب كذلك إعطاء التجربة الفرصة الكافية للحكم على مدى قدرتها على تنفيذ برامجها وخططها التي من خلالها يمكن الحكم على التجربة بالنجاح أو الفشل حسب معطيات نتائج تلك التجربة .وبصدد الحديث عن الفتنة والخلافات التي تعيشها الأمة في هذا الظرف الدقيق من حياة الأمة ينبغي التأكيد أن الفتنة هي صناعة سياسية ، وأن الخلافات هي خلافات سياسية تغذيها جهات متعددة لخدمة مصالحها ، ولم يكن الخلاف في يوم من الأيام خلافاً فقهياً يترتب عليه الصراع أو الفتنة ، وقد اتسعت صدور العلماء والدعاة لوجهات النظر المخالفة منطلقين من القاعدة التي تقول : " اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية " ومن قول الشافعي رحمه الله تعالى : " رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب " ونتج عن هذا الفهم في تعدد وجهات النظر التنوع والتعدد الذي يقود إلى الإثراء والإبداع في الحياة الفكرية الإسلامية ، ولم ينتج عن ذلك أي فتنة أو فرقة أو حروب أو انقسامات كما تُروّج لذلك بعض الأقلام من أن الفتنة صناعة دينية ، حتى الخلاف السني الشيعي في أصله كان خلافاً سياسياً حول مسألة سياسية أخذت أبعاداً دينية ، وكان هناك جهات ترعى ذلك الخلاف وتغذيه لدوافع سياسية ، مع أن هذا الخلاف يمكن التعايش معه ومناقشته من خلال المختصين وأصحاب الفكر المستنير ، وليس عن طريق الإعلام والفضائيات التي تعتمد الإثارة والتشويه للحقائق .
وقد عرفنا عبر تاريخنا الفكري من المناظرات الفكرية ، ومن التنوع الفكري والفقهي عبر العصور الطويلة للأمة ما يدحض فكرة الفتنة الدينية ، بل لقد رأينا من علماء الأمة من يدعو إلى التجديد في الفهم ومراعاة متطلبات العصر ، ومحاربة التقليد ومنعه لما فيه من الحجر على العقول ومنع الإبداع ، ولكن الخلافات التي تحركها الدوافع السياسية هي التي تقف خلف غالب الصراعات التي وقعت بين أبناء في عصورها التاريخية المختلفة ، وعلى ذلك يمكن القول بأن الخلافات والفتن التي نسمع عنها وتعيشها الأمة هي صناعة سياسية وأن أخذت صبغة دينية ، فالدين يدعو إلي الوحدة لا إلى الفتنة كما يقولون .
د. رياض خليف الشديفات /
شاهد المزيد


